صدر حديثا كتاب “الحداثيون العرب والعدوان على السنة النبوية – عبد المجيد الشرفي نموذجا” ، وهو من إصدارات مركز رواسخ، وتوزيع مفكرون الدولية للنشر والتوزيع.

ومركز رواسخ هو “مركز غير ربحي متخصص في مناقشة القضايا الفكرية المعاصرة ومعالجة أطروحات الشكوك والإلحاد بمنهج علمي رصين: كما جاء في تعريفه ويشرف على المركز د. محمد العوضي.

وكتاب الحداثيون العرب والعدوان على السنة النبوية من تأليف د. سامي عامري الباحث المتخصص في مقارنة الأديان والمذاهب المعاصرة وحاصل على دكتوراه في الأديان المقارنة.

وقد جاء في الكتاب على لسان المؤلف:

قبل البدء …

الحمد لله وحده.. والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيّ بعده..
أمّا بعد… فإنّ واقع الاصطراع الفكري في بلاد العرب بين دعوة الإسلام ومناهج التغريب التي تتترّس بعنوان الحداثة في المغرب الإسلامي، والتنوير في مصر، والليبرالية في بلاد الخليج قد أنشأ مساحاتِ جدلٍ واسعة في مسائل عقديّة وقيميّة وتاريخيّة بما جعل سُيولة الثابت المعرفيّ حقيقة واقعة في السِّجال النّخبويّ وفي واقع رجل الشارع المهموم بلقمةِ العيش والاحتفاظ بأنفاس الحياة في واقعٍ ضاقت فيه منافذ العيش الهانئ.


وإذا كان هَمُّ لقمة العيش يُشكّل الهاجس الأكبر للحراك الشعبيّ العامّ، فإنّ هَمَّ الحفاظ على الهويّة الدينيّة لا يزال ملازمًا للوعي العام، وإن كان لا يظهر في الشأن اليوميّ بصورة متكرّرة، وإنّما يُطِلُّ بوجهه -في الأغلب- في أزمات العدوان الاستفزازيّ على مقدّسات الإسلام.


ويبقى هَمُّ التيّار العالماني في العالم العربي سَلْخَ الأمّة عن نَبْعِ تصوّراتها الكونيّة ومناهجها السلوكية وراوافدها القيمية بمكر السراديب، وذلك أساسًا بتغيير القوانين، ومناهج التعليم، وحبك خطابٍ إعلاميٍّ يتدسَّسُ إلى القناعات العميقة في صدور الناس من خلال الأفلام والأغاني وبرامج الحوار المباشر المتشبّعة بالإثارة الرخيصة، والتي تعرِضُ أنساقًا من القيم خفيّة العبارة، قشيبة الصُّورة.


ولا خيار لمن يحملون همّ الدعوة إلى الإسلام إلّا أن يُفرّغوا حيّزًا من مشروعهم الإحيائيّ، لدفع عادية المحرّفين لهذا الدّين والمغالين في إنكار حقائِقِه والـمُغَبِّرين لصفحته، منطلقين من انتماءٍ واضح للإسلام بفهمه السنّي، غير متردّدين ولا مُتلَجْلِجين في إعلانِ ولائهم للكتاب والسنّة، وغيرَ هيّابين من المصاولة الفكريّة الواعية للفكر التخريبيّ عامة، والتغريبيّ منه خاصّةً.


وذاك يقتضي العمل على توعية المسلمين بطبيعة الهدف وحقيقة المسار وضرورة المكابدة الجادّة لتحقيق هذا الانتماء واقعًا حيًّا في الأرض، وذلك بنفض كلِّ دخيلٍ عنه، وانتقاش كلّ زُورٍ منه، ولا سبيل إلى هذا العمل إلّا بكشف المزوّرين وفضح زُورِهم، وبيان خُططهم؛ فلا نفصل فصلًا وهميًّا خادعًا بين الزُّور والمزوّر، ولا بين الفكرة في تجريدها والخطة في دبيبها؛ فهما واحدٌ لا ينفصمان عن بعضهما.


وإنّ هذا الفعل الذي يبدو في ظاهره مجرّد انشغالٍ بردّ المشاغبين المتهافتين على الإفساد وتعطيل فاعلية هذا الدين، هو في حقيقته رَدْمٌ لفسادٍ ورَفْعٌ لعمادٍ، فإنّ بيان الباطل وجهٌ للإسفار عن الحق، وتقبيح المنكر إذكاء لإشراقة الصّدق. ويشهد التاريخُ أنّ الأمّة كثيرًا ما كانت تكتشف كنوزها المطمورة في أعماق ذاتها، إذا واجهت متدسّسين يبغونها عِوَجًا.


إنّ هَدْمَنَا بِنَاءٌ، ورَصْدَنا لظالمي أنفسهم؛ إنارةٌ للطّريق، وتعقّبنا للقُطَّاع؛ دفعٌ حثيثٌ إلى مهوى القلوب، وكفَّنا لأيدي الموسْوِسين في العقول، تثبيتٌ لها حتّى لا تميد.
وكلٌّ على ثغرٍ… حتّى لا تكون فتنة..

لماذا «الشرفي»؟ ولماذا «السنة»؟

لماذا الشرفي!


التيّار العالماني الاستئصاليّ عامّةً، والحداثيُّ منه خاصّةً، بلغَ شأوًا بعيدًا في الهيمنة الماديّة على الواقع الفكري في المغرب الإسلاميّ، غير أنّ سلطانه الأعلى كان في تونس في ظلّ حكم بورقيبة المقبور، وابن عليّ المخلوع.. وقد استطاع بسلطان الإكراهِ والقمعِ والتّشهير أن يصنع مزاجًا عامًّا مُتقلْقِلًا، يرتاب من حسيس العمل الصريح إلى إقامة الدين تحت عناوين شرعية لا تتستّر بمعان تحفُّها غمامةُ الرِّضا بالواقع.


والقراءة في كتابات العالمانيين التونسيّين خاصة، كاشفةٌ أنّ هذا التيّار قد فرض أُمِّيَّةً معرفيّة داخل التيّار العالمانيّ نفسه؛ بتصدير قيادات فكريّة بعيدة عن الهمّ الفكريّ الخالص، وواهيةِ الصّلة بالعلوم الشرعيّة التي تخوض فيها بلا أدنى رصيدٍ علميٍّ مَرْضِيّ.


والقراءة في أدبيات التيّار الحداثيّ التونسي كاشفة أنّه يفتقد الطّرح العلميّ النّسقيّ المتكامل، بل ويعوزه الطّرح البيانيّ الواضح، ولعلّ أبرز صفة فيه هي “الإيّة”(!)، وهي الأُخت العربية “للإيزم” “ism” الإنجليزيّة، و”الويّ” وهي شقيقة “الإيست” “ist” الإنجليزيّة، فإذا رأيت “الإيّة” أو “الويّ” (العلميّة، والإبستمولوجيّة، والحداثيّة .. الإسلامويّ، والماضويّ، والحداثويّ…) فاعلم أنّك أمام ظاهرة “حداثويّة” تونسيّة. وقد جرَّبْتُ هذا بنفسي مرارًا عندما كنت أسمع مداخلاتٍ لهم على الفضائيّات العريبّة أو عندما كنت أقرأ مقالاتٍ لهم على وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ كنت “أتلقّطهم” من بين عشرات الضُّيوف المتحدّثين أو الكُتّاب المتحذلِقين، بإيّاتهم وويّاتهم، “فَمَنْ عاشَرَ القوم أربعين يومًا” “لا أبا لكَ يَسأم”!


وإنّك لو سحبْتَ من جماعة “الإيّة” و”الويّ”، إيّاتهم وويّاتهم، وأخرجْتَ من كتاباتهم أسماء بعض العلوم الإنسانيّة ذات الجرس الأعجميّ التي لم يألف العامّة سماعها؛ فستكتشف أنّك أمام معانٍ مُقرقِعة بلا رواء، وهاماتٍ من الكلام مُنتَصِبة بلا داع غير فراغها من ثقيل الفِكَر.


حاوِلْ بنفسك أن تمنعهم “إيّاتهم” و”ويّاتهم” وقعقعات اللّفظ الأعجميّ، وأنا أُقْسِمُ لك أنّك لن تجد وراء الأَكَمةِ أحدًا؛ فَسَيُولِّي الـمُتَخَفُّون ظهورهم وراء شوكها هاربين، وقد أَلْجَمَهُم البَكَمُ؛ إذ ليس وراء “الإيّ” و”الويّ” غير العَيّ!


أمّا القعقعات فلا تخرج عن أسماء العلوم الأعجمية، مُنَقْحَرَة (Transliterated) دون تعريب؛ زيادةً في الإغراب، مُثْبِتين رُسُومها دون حقيقتها، فتكثُرُ في كتاباتهم اصطلاحاتٌ مثل: الفينومولوجيا، والسيميائية، والإستيتيقا… وهو نهجٌ في التنفُّخ رخيصٌ! فإنّ هذه الاصطلاحات ليست تمتماتٍ سحريّةً تَقْلِبُ النُّحاسَ ذهَبًا، ولا هي ختْمٌ سلطانيٌّ يقلِبُ المحظورَ شرعًا، وإنّما هي ألفاظٌ لعلومٍ لا تدلُّ في الأعمّ الأغلب على منهجٍ علميٍّ واحدٍ، ففي كلّ فنٍّ منها مسالكُ ومدارسُ، لكنّ المقعقِعين يظنُّونها دربًا واحدًا!


وأشهر جماعات “الإيّة” و”الويّ”، إخوانُ الصَّفاء، وخلّان الوفاء، المتقرفِصين في كليّة الآداب “بمنوبة” تحت خيمةِ “قسم الحضارة” حيث يرأسهم -رئاسةً شرفيّة- نبيُّهم الملهَمُ صاحب الفيوض والإشراقات، ومن حوله المريدون يعبُّون من فيضِه.

وللمريدين إشرقاتهم الخاصّة، وبخاصة جماعة “النِّسويّات” الداروينيّة، إناثًا وذكورًا! وهي جماعة تملك قدرةً عجيبة على إثارة كلّ مشاعر النُّفرة الخاملة في أعماق نفسِك؛ فهذه زعيمتُهم تَفْجَؤُك في كتابها “بنيان الفُحولة” بعباراتٍ مثل: “مفهوم المركزيّة-القضيبيّة-العقليّة” و”مركزيّة لاهوتيّة-قضيبيّة” و”القيم العقليّة القضيبيّة” ، و”موقف قضيبيّ” –وهو تعبيرٌ استُعمِل في حقّ النّبي -صلوات الله وسلامه عليه-!!!- وسيلٍ من العبارات التي تدور حول العورات المغلّظة. وقد كتب أحد المريدين على الموقع الرسمي “للجماعة” مقالًا فحلًا عنوانه: “العقلُ والقضيب”! وقطبُ رَحى هذه الجماعة، إثارةُ العداوات بين الرجال والنّساء وإذكاءُ روح الصّراع بينهما.


ومن فيض هذه الجماعة ما أخبرتنا به صاحبة “البنيان” من أنّ القرآن “يُبشّر” (!) المؤمنين باللُّواط في الجنّة! طبعًا يحقُّ لمثلها الاجتهاد في صورته المطلقة بعد أن كشفَ لنا كتابها آية “الله يعمل ما تحمل كلُّ أنثى وما تغيضُ الأرحام” التي اعتمد عليها –بزعمها- قاضٍ تونسيٌّ لرفض الاعتراف بذَكَرٍ غَيَّرَ جِنْسَهُ! يبدو أنّ القاضي –المفترى عليه-وهذه “المفكّرة” يقرآن من مُصحفٍ لا يذكر ما “أَلِفْناهُ” من أنّ {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار}[الرعد:8].

ومن الممكن أن تقرأ في كتاباتها آياتٍ “حديثة” أُخرى مثل: “الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل الله عليهنّ بعضهم على بعض.” مكان القراءة “الكلاسيكيّة”: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:34]. وهي كاتبةٌ “تجديديّة” حداثيّةٌ، تجدِّدُ حتى في الحديث فتقرأ علينا حديث لَعْنِ “الـمُتَفَلِّجات” على أنّه لَعْن “الـمنفلجات”!


ومن دعاة التّنوير، الموطَّأة لهم المنابر والمذلّلة لهم شاشات التَّهْذار، نجم الشاشات يوسف صدّيق الذي زعم في كتابه “القرآن: قراءةٌ أُخرى وترجمة أُخرى” “Le Coran : autre lecture, autre traduction” (2002) أنّ القرآن مقتبس –ولو جزئيًّا- من الثقافة اليونانيّة! وهو نفسُه الذي أثار في التسعينات من القرن الماضي ضجّةً كادت تساوي ضجّة “آيات شيطانيّة” لسلمان رشدي، عندما كادَ يُصدِر نسخةً للقرآن على شكل صُورٍ كرتونيّة! ولعلّ أكبر ميزة لهذا النّجم الذي ألّف كتاب “نحن لم نقرأ البتّة القرآن” “Nous n’avons Jamais Lu le Coran”(2004م) أنّه حقيقة لم يقرأ القرآن! ودليل ذلك أنّه رغم حضوره الإعلامي المكثّف لم يستطع إلى اليوم أن يقرأ آية من كتاب الله دون لحنٍ أو تحريفِ لفظٍ، بل لقد رأيناه في الإعلام المرئيّ يعجز عن التكلّم بلغةٍ عربيّة سليمةٍ.

ولا شكّ أنّ أَعظم “إبداعاته” زَعْمُه أنّه لم ينزِلْ على محمّد –صلّى الله عليه وسلّم- كتابٌ؛ فبذلك أراح الملاحدة والمنصّرين والمستشرقين من جهدهم الطّويل في الطّعن في مواضعَ من القرآن؛ فقد نفى الأصل الربانيّ للكتاب كلّه، “فأراح”! و”استراح”!
لِنَعُدْ إلى رأس “الجماعة الأمّ”، ولنترك الذُّيول!


عبد المجيد الشرفي، شخصية قد يجهلها العوامّ من الناس، من الذين شغلهم الإجرام البوليسيّ للمخلوع عن النّظر إلى ما يحاك وراء السّتار ويُدَبَّرُ في حُلْكةِ الظَّلام. الشرفي المجهول عند العامة، أهم شخصيّة “فكريّة!” في تونس زمن المخلوع؛ لا لِمَلَكةٍ عقليّةٍ نادرة ولا لرصيد فكريّ فذّ، وإنّما لأنه أحد حُواةِ مشروع الانسلاخ الذي أَهْدرَ به المخلوعُ ذاتيّة البلاد في زمن تغييبِ العقول ببرامج التعليم والإعلام المعَلْمَنة. ليس هو مجرّدُ فردٍ، وإنما هو رأس جماعة، تُعْقَدُ له البَيْعةُ، لا بِقَسَمٍ بأطراف اللِّسان، وإنما إذعانًا من أعماق الجَنان.


هو صاحب المقولات “المستنيرة” التي ضجّ منها “الشُّذوذ” واستنكرتها “النّكارة”؛ مثل القول إنّ المسلم له أن يصلّيَ العدد الذي يُرضِيهِ من الركعات في الصّلوات المفروضة، وإعفائه المسلم من الصَّوْم في رمضان، وإحلالِه من رميَ الجمراتِ في الحج، بل ومدِّ الحجِّ على ثلاثةِ أشهر، ورَدِّهِ أَنْصِبَةَ الزكاة التي جاء بها الوحيُ، وزعمه أنّ المحافظة على العبادات كما جاءت عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، “تكريسٌ للانحراف عن معانيها”، و أنّ تحريم الخمر ليس قرآنيًّا ، ووَصْمِهِ منظومةَ العقوبات الشرعيّة بأنّها “مخلّةٌ بالكرامة البشريّة” .. بل قد اختصر الشرفي الكلام في قوله: “إنّ الإسلام لن يخسر شيئًا حين يتخَلَّصُ من ذِهْنيّة التحليل والتحريم” .. مقولات كلّما ذكرتُها في خلوة أو جَلْوةٍ، قفزَ إلى ذهني قول ابن حزم -رحمه الله- في وصف طيفٍ من اللَّغْوِ أدنى من هذا الخبال: “وهذه أقوالٌ لو قالها صِبْيانٌ يَسِيْلُ مُخاطُهُم لَيُئِسَ من فلاحِهم، وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء.” وكلّما حاولت دفع كلمات ابن حزم عن ذهني ارتدّت إلي كَدِبقٍ لَزِقٍ حتّى لكأنّ كلام ابن حزم صَدْرٌ لعَجُزِ الشرفي!
مشروع الشرفي هو ذاته مشروع “التَّغْيِيب” الذي تولّى كِبره رؤوسُ التَّغْرِيب في العالم العربيّ، ففي المغرب الجابريّ، وفي مصر، حسن حنفي، وفي سوريا، صادق جلال العظم، ومن فرنسا، الجزائري أركون، على اختلافٍ في فجاجةِ الدّعوى وصراحَتِها…وعامّةُ رُؤُوسِ هذه الفرقة التي ظهرت زمن افتراق الأمة، إمّا طواها عنّا القبر أو هم في أرذل العمر، وقد تركوا بصماتهم على الواقع في الجامعات والإعلام والسياسة. وقد تركوا وراءهم جيلًا من المجتهدين في نقض الثوابت وزحزحتها عن مكانها، أو تحويلها إلى سيل مائع لا يستقر له شكل ولا مقام..


لماذا السنّة؟


السنّة النبوية، ثبوتًا وحجيّة، معتركُ الخصوم في القرن الحالي والذي سبقه، وهي موضوع احترابٍ حادٍّ في ساحات الإعلام في العَقْدين الأخيرين. وقد صنع خصوم السنّة من بعضهم رموزًا يتصدّرون المنابر للطَّعن في السنّة والسيرة عامة، والصَّحيحين خاصة؛ حتى شاع هذا الطَّعن بين عامة الناس بعد أن كان حبيس الكتب.
وأَمْرُ السنّة عظيم، والدَّفع عن هذا النَّبع النبويِّ واجبٌ؛ إذ لا إسلام ولا شريعة دون الأخذ عن النبي الخاتم -صلّى الله عليه وسلّم- ما بلّغه عن ربّه بعد الوحي القرآني.


وقد كان أعظم جَدَلِ الفِرَقِ الإسلامية في الزمن الأوّل دائرًا حول السنّة، في الأخذ بها أو ردّها، أو في الطريق الموصل إليها دون الجدل في حجيّتها. وكان هذا المعترك سبيلًا لتمييز “أهل السنّة والجماعة” عن غيرهم من الفرق الحادثة. وقد اتّخذ “أهل السنّة” من السنّة شعارًا لهم ودثارًا؛ لِعِلْمهم أنّ السنّة فارقٌ بين الأصالة البِكْر والبِدْعة اللَّقيطة.


ويتجدّد الجدل اليوم حول السنّة، ولكن على صورة أعظم من جدل السابقين؛ إذ الغاية هي بَتْرُ الصِّلة التي تجمع القرآن بالسنة؛ بما يجعل القرآن حمَّالًا لمعاني الحداثة والعالمانية، بل وحتى المقولات الدهريّة الصّرفة.


وإقصاء السنّة عن المجال المرجعيّ للفاهمة الإسلاميّة سبيلٌ لإقصاء كثيرٍ من الأحكام التي لم تَرِدْ في القرآن، كما يضمن سيولة المعنى القرآنيّ بعيدًا عن إحكام التطبيق النبويّ؛ وهو ما ينتهي بالرسالة الخاتمة إلى أن تكون قابلة لأن تكون وعاءً لكلّ دعوى؛ مهما بلغ انحرافها في تقعّرها الحاد أو تحدّبها الفجّ.


وتلك مقدمة أولى لا تنتهي فُصولها الأخيرة حتى تقترن بضرب قداسة القرآن بإنكار حِفْظِ حُروفه عبر القرون، وجُحود ربَّانِيَّته على مذهب التَّاريخانيِّين الذين ينفقون جهدهم لإثبات أنّ القرآن نبتُ الأرض وحصاد جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي وليس خَبَرَ الوَحْي النَّازل من السماء.


ومن الوهم، بل من سوء الظنّ، أن يحسب المسلمُ أنّ “معركة السنّة” هي معركةُ فصيلٍ مسلمٍ محصورِ الأفراد، ضَيِّق الأُفق، يعيش معارك التاريخ القديم بحماسةِ مُغيّبي الوعي عن نوازل الدَّهر. إنّها معركة الإسلام في كلّ عصر لأنّ السنّة حِمى الدِّين الذي لا يَظْهر للإسلام وجهه الأوّل حتّى يُحمى سياجه من تسوُّر الدُّخلاء والمفسدين.


وقد تولّى التيّارُ العالماني عامة، والحداثيَّ في المغرب الإسلامي خاصّة، كِبْرَ الطعن في السنّة من كلّ وجه؛ بالقول إنّها مزيّفة مختلَقَة، والزعم أنّها حتّى لو ثبتت فهي غير مُلزِمة لنا لأنّها لم تَدَّعِ لنفسها المعياريّة في العصر الأوّل. وهي دعوى تكرَّرَ طرحُها في الكتب والصُّحف السيّارة، وفرضت في كثير من أقسام الدراسات الجامعية، وحُشد لها الكُتّاب، والداعمون بالمال السَّخِيّ والمنابر العالية؛ دفعًا لها لتكون في واجهة كلّ طالب للمعرفة.


وقد اعتنى عبد المجيد الشرفي بضخّ مفاهيم رفض السنّة والإزراء بها على مدى عقود في الجامعة التونسيّة؛ حتى آتى عملُه ثمرتَه في إنتاج أساتذةٍ جامعيّين أشدّ منه حماسة في إنكار التراث النبويّ. وقد بلغت هذه الدعاوى في عدد من أوجهها صورًا أشدّ تطرّفًا من دعاوى عامّة خصوم الإسلام من المستشرقين.


ولا يتمّ بيانُ الحقّ في موقف الحداثيين من الإسلام، إلّا بعرض مذهبهم في السنّة. ولا يستقيم نقضُ غزلِ الشرفي حتى يُعرَضَ مذهبُه -خاصة- في الميراث النبوي على ميزان النقد المنصِف. ولا يُوفّي نصيرُ السنّةِ السُنّةَ حقّها حتى يدفع عنها تحريف الغالين وانتحال المبطِلين وتأويل الجاهلين.


عند البدء


دراسةُ موقف الشرفي من السنّة أمانةٌ علميّة تقتضي دراسة الأمر بعناية ودقّة بعيدًا عن التهويل والتهوين. وهي بحث في مشروع رُصد لإنجاحه زخم ماليّ وإعلاميٌّ ضخم، بعضُه ظاهر وكثير منه سارِبٌ تحت دَعَاوى الحِياد. وهو ليس مشروعَ فرد، وإنّما مشروع جماعة الحداثيّين الذين ارتضَوا للشرفي، ولبعض أقرانه، تصدُّرَ المشهد “الأكاديميّ” و”الإعلاميّ” في مخاصمة “التراثيّين”..


وللوفاء لبحثنا في مذهب الشرفي من السنّة بحق بسط الكلام دون إقتار، سيتناول حديثنا الموضوع من ثلاثة أوجه:


أوّلًا: حقيقة الإمامة المعرفية التي يدّعيها الشرفي لنفسه، والتي يُكْثِرُ أتباعُه الدَّنْدنةِ حولها. وأهميّة هذا البحث رفع معالم القداسة عن كاتب يُعَيِّرُ مخالِفِيه بفقد الحاسّةِ العلميّة والثقافة الموسوعيّة التي يقتضيها البحث التراثيّ، رغم أنّ كتاباتِه تُظهِر ضمور معرفته بكلّ المسائل التي خاض فيها عرضًا أو نقدًا.


ثانيًا: حقيقة إلمام الشرفي بعلوم السنة، ومبلغ علمه بدقيق خبرها والمشاع منها. وهو باب من النظر يجعل المنتهي إلى حقيقته على وعي أنّ من تكلّم في غير فنّه أتى بالغرائب والبواقع. وإذا عُلِم السّبب بَطُل العَجَب.


ثالثا: حقيقة مقولات الشرفي في حفظ السنّة ومرجعيّتها، واختبار ذلك في ضوء صحيح التاريخ. وذاك وجه محاكمة “مشروع” الشرفي بعرض مفردات هذا “المشروع”، وبيان حقيقة وزنها العلمي.


ونسأل الله أن نوفّي لهذا البحث حقّه من الإنصاف والتجرّد للحق. وقد حرصنا أن نلتزم من الكلام أَقَلَّهُ حِدّة صونًا للبحث من سلطان العاطفة المجرّدة، ولكن قد ينبو البيان ببعض العبارات التي قد يحسبها القارئ من محض اللُّغة الساخرة، وإنما هي في حقيقتها تعبير عن واقع الحال.

لتسوق الكتاب من مفكرون الدولية اضغط هنا